عزيزي الزائر أهلا وسهلا بك في- كورة نيوز نقدم لكم اليوم ندوة ترصد مكانة القانون الدولي - كورة نيوز
احتضنت كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية بمراكش أشغال مناظرة أكاديمية بمناسبة مرور 80 سنة على تأسيس منظمة الأمم المتحدة، اختير لها عنوان: “القانون الدولي وسؤال الفاعلية في ضوء تناقضات الأحداث العالمية المعاصرة”، وذلك بمشاركة ثلة من الأساتذة الجامعيين المتخصصين، منهم الأستاذ محمد نشطاوي، والأستاذ إدريس لكريني، والأستاذ يوسف الظهرجي، والأستاذة انتصار بن اصبيح؛ فيما قام بتسيير تنشيط اللقاء الأستاذ هشام آيت الطاهر.
وشكل هذا اللقاء الذي نظم في إطار أنشطة مختبر الدراسات الدولية والدستورية وتحليل الأزمات والسياسات مسرحا تلتقي فيه أصواتُ العقلِ والنقدِ تحت سقفٍ أكاديمي منظم، حيث اجتمعَ خبراء القانون الدولي والعلاقات الدولية في مناظرةٍ استثنائية بمناسبة الذكرى الثمانين لتأسيس الأمم المتحدة، ليبحثوا مصيرَ نظامٍ دوليٍ يئنُّ تحت وطأة التناقضات؛ إذ لم تكن المناظرة مجردَ حوارٍ نظري، بل غوصًا في أعماق الأزمات التي تكشف هشاشةَ القانون الدولي أمام تحولات العصر، من صراعاتِ القوى العظمى إلى ثورات التكنولوجيا.
انطلقت الجلسةُ بتحليلٍ تاريخيٍ لمسار القانون الدولي منذ معاهدة وستفاليا (1648)، التي أسست لمفهوم سيادة الدولة كحجر زاوية في النظام العالمي، مرورًا بتأسيس الأمم المتحدة (1945) كأملٍ لإحلال السلام عبر التعددية القطبية والمساواة بين الدول، وصولًا إلى القرن الحادي والعشرين، حيث باتت “السيادة” تُستَخدم سلاحًا ذا حدين: درعًا لحماية الشعوب أحيانًا، وستارًا لإخفاء الجرائم أحيانًا أخرى؛ ففي سوريا، مثلاً، تحوَّل مبدأ “عدم التدخل” إلى ذريعةٍ للصمت الدولي إزاء استخدام الأسلحة الكيماوية، بينما في ميانمار أخفقت الأمم المتحدة في وقف إبادة “الروهينغا”. وهذه التناقضات لم تكن وليدة اليوم، بل تفاقمت مع صعود قوى جديدة ترفض الخضوع لمعاييرَ دوليةٍ تُعتبر – في نظرها – إرثًا غربيًا.
لم تكن الدولُ الكبرى وحدها من يُعيد تشكيل خريطة القانون الدولي، بل برزت فواعلُ جديدةٌ تُهدد النظامَ التقليدي برفضها تنفيذ أحكام محكمة التحكيم الدائمة، ما يؤكد أن القوةَ العسكريةَ والاقتصاديةَ قد تُعطِّل أحكامَ القضاء الدولي. وفي الجانب الآخر استغلت روسيا مثلا ثغراتِ النظام القضائي الدولي، حيث لا تُلزم مذكرةُ اعتقال بوتين – الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية (2023) سوى الدول الموقعة على نظام روما، وهو ما يبرز إشكاليةً جوهريةً في هيكلية القانون الدولي: تحكُّمُ الدول في اختيار التزاماتها. لكن الخطرَ الأكبرَ تجلى في صعود فواعلَ غير تقليدية كشركات النفط العملاقة التي تلوث المحيطات دون رقابةٍ دوليةٍ فعالة، وجماعات مسلحة مسيطرة على مناطق متعددة من العالم. أما التحدياتُ التكنولوجيةُ والبيئيةُ ففرضت نفسَها كأبرز اختبارات قدرة القانون الدولي على التطور؛ فالهجماتُ السيبرانية الروسية على البنية التحتية الأوكرانية (2022) طرحت سؤالًا جوهريًا: كيف يمكن تصنيفُ هجماتٍ إلكترونيةٍ تُدمر أنظمةَ المستشفيات وتُعطّل إمدادات المياه كـ”جرائم حرب” في ظل غياب نصوصٍ صريحةٍ في اتفاقيات جنيف (1949)؟ وبالمثل يظل الضحايا المدنيون للطائرات المسيّرة (الدرونز) في اليمن رهينةَ غموضٍ قانونيٍ حول تحديد المسؤولية بين الدول المصنعة والمستخدمة.
على الجبهة البيئية بدت الفجوةُ بين القانون والواقع مُخيفة: فاتفاقيةُ اللاجئين (1951) تستبعد نازحي الكوارث المناخية، تاركةً ملايين البشر – كسكان جزر توفالو المهددة بالغرق – بلا حمايةٍ قانونية، بينما فشلت آلية “الخسائر والأضرار” – التي وُلدت مع اتفاقية باريس (2015) – في إجبار الدول الصناعية على تعويض الدول الفقيرة الأكثر تضررًا من تغير المناخ، ما يعكس اختلالًا أخلاقيًا وقانونيًا في مواجهة أكبر تهديدٍ وجوديٍ يواجه البشرية.
وسط هذه التعقيدات حاول المشاركون رسمَ خارطة طريق للإصلاح، فاقترح البعضُ إعادةَ هيكلة مجلس الأمن عبر توسيع عضويته الدائمة لتمثيل دولٍ نامية، أو تقييد استخدام حق الفيتو في قضايا الإبادة الجماعية؛ بينما دعا آخرون إلى تفعيل أدواتٍ بديلةٍ كـ”قرار الاتحاد من أجل السلام” (1950)، الذي يسمح للجمعية العامة للأمم المتحدة بالتحرك عندما يُعطّل مجلس الأمن. لكن التحديَ الأعمقَ كان في سد الفجوة بين التشريعات القديمة ومتطلبات العصر: فاتفاقيات جنيف – التي صيغت في حقبة الحروب التقليدية – لا تُجيب عن أسئلة الحروب بالوكالة أو الجماعات المسلحة غير التابعة لدول؛ كما أن الفضاءَ السيبرانيَّ يظل ساحةً بلا قانونٍ دوليٍ ملزم، ما يستدعي الإسراعَ في صياغة معاهدةٍ دوليةٍ تحكمه، على غرار معاهدة الفضاء الخارجي (1967).
لم تخلُ المناظرةُ من صراعٍ بين رؤيتين: فريقٌ تفاؤليٌّ استحضرَ لحظاتٍ تاريخيةً نجح فيها القانونُ الدولي في فرض العدالة، كمحاكمات نورمبرغ التي أسست لمساءلة القادة عن جرائم الحرب، أو حملات المجتمع المدني التي أدت إلى معاهدة حظر الأسلحة النووية (2017)، مؤكدًا أن الإصلاحَ ممكنٌ عبر تراكم الإرادات الفردية وتحالفات القوى الصاعدة. وفي المقابل دافع فريقٌ تشاؤميٌّ عن فكرة أن النظامَ الحاليَّ وُلد مشوّهًا بفعل هيمنة المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، وأن ازدواجيةَ المعايير – كالتعامل المختلف مع انتهاكات إسرائيل في فلسطين مقارنةً بغيرها – ليست سوى عرضٍ لخللٍ بنيويٍ لا يُعالج إلا بقلبِ موازين القوى العالمية.
في الختام خرجت المناظرةُ بتوصياتٍ حاولت الجمعَ بين الطموح والواقعية: من تطوير مفهوم “السيادة المسؤولة” الذي يربط حقوقَ الدول بواجباتها تجاه المجتمع الدولي إلى إنشاء صندوقٍ دوليٍ لتمويل محاكمات جرائم الحرب بعيدًا عن تأثيرات الدول المانحة، مرورًا بإلزام الشركات متعددة الجنسيات بمعايير بيئيةٍ صارمةٍ تحت رقابة أممية. لكن الرسالةَ الأكثرَ إلحاحًا كانت واضحة: لا يكفي تحديثُ النصوص القانونية، بل يجب كسرُ احتكارِ القوى العظمى لصناعة القرار الدولي، وإفساحُ المجال لأصوات الضحايا والشعوب المهمشة. وكما علّق أحد الخبراء: “التاريخُ يعلمنا أن القانونَ الدولي ليس نصًّا مقدسًا، بل مرآةً لموازين القوى.. وإذا أردناه أداةً للعدالة فلا بد من تغيير ما في المرآة أولًا”.
0 تعليق